“انت فرنسي جزائري؟ فرنسي لبناني؟ أو فرنسي فرنسي؟؟”
علي أن أشرح للذين شاركوا في القصة بعض التفاصيل عن حياتي قبل اليمن والظروف التي بدأتُ فيها تعلم اللغة العربية.
ولدتُ في عام ١٩٨٠ وتربيتُ في ضواحي باريس في أسرة مسالمة وسعيدة. كان أبي باحث في الفيزياء وأمي طبيبة نفس. كانت لديه بنت من زواج سابق و لديها بنت كذلك كانت تعيش معنا لكن زواجهم ثابت. وكانت أم أبي تحب أمي وأنا الطفل الأخير المدلل من الكل…
وكانت لأبي أخت أصغار منه بسنة درست التاريخ وإختفت قبل ولودي فاستقرت في تونس مع صديقها التونسي الذي التقت به في الجامعة. وفي طفولتي لم التقي بهم إلا بعض الأحيان كل سنة أو سنتين.
وأصيب أبي بصرطان عندما كان عمري ١٤ سنة ثم رجع الصرطان عندما كملت الثانوية فقال الأطباء أن له مدة البقاء المتوقعة بين ست أشهور وسنتين. هذا كانت أول سنة دراساتي وطبعا اتجهت إلى الرياضيات والفيزياء في كلية تنافسية في باريس. وكان معنا طالب اسمه محمد أمين يأتي من مدينة صفاقس التونسية وكان متدين فتكاتف معي في هذه الظروف بأسلوب عفوية جدا فبدأت تعلم اللغة بجانبه. وخلال هذه السنة ظهر توتر بين جدتي وأمي فسار إلى حربٍ خفي وفي هذه الأثناء كنت أتركز على دراساتي وأنغمس في تعلم اللغة العربية. واقتربت نهاية السنة وقد خططنا رحلة صيفية مع زملائي إلى بلاد محمد أمين لكن في الأخير سفر صديقي وانا ألغيتُ تذكرتي بسبب حالة أبي. فعندما علم بالأمر بكى وتوقف عن الكلام ثم مات بعد يومين في تاريخ ٢٩ يونيو ١٩٩٩ وعمره ٥١ سنة.
في عام ٢٠٠٠ نجحتُ في مباراة ولوج مدرسة المعلمين العليا. فلاقيت هناك مدرسة اللغة العربية هدى أيوب اللبنانية فانضممت إلى دورتها مباشرة في الصف الثاني. وفي يوليو ٢٠٠١ كانت لنا دورة صيفية في مدينة صنعاء فاكتشفت المجتمع اليمني فبعد ثلاثة أشهر قررت التحويل من الفيزياء إلى علم الإنسان. وساعدتني مديرة قسم العلوم الإجتماعية في بحثي الأول ثم اشتغلتُ تحت إشراف جوسلين دخلية وهي باحثة فرنسية تونسية مختصة بأنثوربولوجيا وتاريخ البحر المتوسط.
طبعا عمتي آن-ماري بلانال مشهورة في الدائرة الصغيرة للدراسات العربية في فرنسا فلما وصلت إلى تونس في نهاية السبعينات اشتغلة كمديرة المكتبة القنصلية فحوّلتها تدريجيا إلى معهد البحوث المغاربية المعاصرة الذي أسس في عام ١٩٩٢ وكانت لها دورا أساسيا إن لم يكون ظاهرا كنائبة مدير المعهد حتى تقاعدها في ٢٠١٠ (هذه القصة منشورة هنا).
وبالتأكيد عمتي و مشرفتي تبادلن بعض الكلام وتكوّنّ فكرة معينة بما حدث في بحثي الأول وهذا أثر علي بالطبع فشعرت بالثقة لكن في نفس الوقت حافظت على فكرتي الخاصة بما حدث. من وجهة نظري في ذلك الوقت لم يكن لعمتي أي دور في قصتي بل دخلَت فيها الريضيات والفكر التجريدي والتحالف الغير عادي بيني وبين زياد (انظر قصتي في تعز) الذي كان يكرر قصتي مع محمد أمين التونسي. وهذا الجانب لم تعترف به مشرفتي أبدا حتى بعد أن تضخمت ظاهرة جنون زياد. فإن مشرفتي تدريبها أدب وليس علوم فلا تفهم نظريات بيتسون وأمثاله وهكذا سحبت دعمها بعد الربيع العربي في الوقت الذي احتاجتُ إليه أكثر. و طبعا كنت أتمنى أن تلتقي ثورات تونس وتعز فتنتشر إلى ثورة علمية في مجال الفكر الإجتماعي لكن كانت تكهنات محضة والحمدلله علمني بعض التواضع.
هذه الظروف هي العقدة الحقيقية وليست أحداث أكتوبر ٢٠٠٣. إن العقدة هي في مؤسسات العلوم الإجتماعية وفي تناقضاتها بين شرفها العلمية ومواطن ضعفها الغير معترفة. ولكن عدم معالجة هذه القصة حتى يومنا هذا لا يدل على كراهية الإسلام والمسلمين من قبل أشخاص كرسوا حياتهم لدراسة هذه المجتمعات. إنما يدل فقط على أن المسلمين في ما بعد الاستعمار فكروا أن يستغلون هذه التناقضات لصالحهم الضيق ولا يعتبرون المصلحة العامة المقصود بهذه العلوم. هذا الذي أدى المسلمين إلى وضعهم الحالي والعالم لم يخلص الانتقام منهم بعد.